سورة الأحزاب - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


قوله تعالى: {يا أيُّها النبيُّ اتَّقِ الله} سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أُبيّ، ومعتّب بن قُشَير، والجَدّ بن قيس؛ فتكلَّموا فيما بينهم، وأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعَوه إِلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفُض ذِكْر اللات والعُزَّى ويقولَ: إِنَّ لها شفاعة، فكَرِه ذلك، ونزلت هذه الآية. وقال ابن جرير: {ولا تُطِع الكافرينَ} الذين يقولون: اطرد عنَّا أتباعك من ضعفاء المسلمين {والمنافقينَ} فلا تَقْبَل منهم رأياً.
فان قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسولَه بالتقوى، وهو سيِّد المتَّقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه.
والثاني: الإِكثار مما هو فيه.
والثالث: أنه خطاب وُوجِهَ به، والمراد أُمَّتُه.
قال المفسرون: وأراد بالكافرين في هذه الآية: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، وبالمنافقين: عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطُعمة بن أُبَيْرِق. وما بعد هذا قد سبق بيانه [النساء: 81] إِلى قوله: {ما جعل اللّهُ لرجُل من قلبين في جوفه} وفي سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن المنافقين كانوا يقولون: لمحمد قلبان، قلب معنا، وقلبٌ مع أصحابه، فأكذبهم اللّهُ تعالى، ونزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في جميل بن مَعْمَر الفهري كذا نسبه جماعة من المفسرين. وقال الفراء: جميل بن أسد، ويكنى: أبا مَعْمَر. وقال مقاتل: أبو مَعْمَر بن أنس الفهري- وكان لبيباً حافظاً لِمَا سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إِلا وله قلبان في جوفه، وكان يقول: إِن لي قلبين أعقِل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلمَّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقَّاه أبو سفيان وهو معلِّق إِحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حالُ الناس؟ فقال: انهزموا، قال: فما بالك إِحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرتُ إِلاَّ أنهما في رِجليّ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لَمَا نسي نعله في يده؛ وهذا قول جماعة من المفسرين. وقد قال الزهري في هذا قولاً عجيباً، قال: بلغَنا أن ذلك في زيد ابن حارثة ضُرب له مثَل يقول: ليس ابنُ رجل آخر ابنَك. قال الأخفش: {مِنْ} زائدة في قوله: {مِنْ قلبين}. قال الزجاج: أكذبَ اللّهُ عز وجل هذا الرجل الذي قال: لي قلبان، ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممَّا لا حقيقة له، فقال: {وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكم} فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أُمّاً، وكانت الجاهلية تُطلِّق بهذا الكلام، وهو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كَظَهر أُمِّي، وكذلك قوله: {وما جَعل أدعياءَكم أبناءَكم} أي: ما جعل مَنْ تَدْعونه ابناً وليس بولد في الحقيقة ابناً {ذلكم قولُكم بأفواهكم} أي: نسبُ مَنْ لا حقيقةَ لنَسَبه قولٌ بالفم لا حقيقة تحته {واللّهُ يقولُ الحقَّ} أي: لا يجعل غير الابن ابناً {وهو يَهدي السبيل} أي: للسبيل المستقيم.
وذكر المفسرون أن قوله: {وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرون مِنْهُنَّ} نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة.
ومعنى الكلام: ما جعل أزواجكم اللاَّئي تُظِاهرون منهنَّ كأُمَّهاتكم في التحريم، إِنَّما قولُكم معصية، وفيه كفَّارة، وأزواجُكم لكم حلال؛ وسنشرح هذا في سورة المجادلة إِن شاء الله. وذكروا أن قوله: {وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم} نزل في زيد بن حارثة، أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبنَّاه قبل الوحي، فلمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون: تزوَّج محمدٌ امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فنزلت هذه الآية.


قوله تعالى: {أُدعوهم لآبائهم} قال ابن عمر: ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إِلا زيد بن محمد، حتى نزلت {أُدعوهم لآبائهم}. قوله تعالى: {هو أقسط} أي: أعدل، {فان لم تَعْلَموا آباءهم} أي: إِن لم تعرفوا آباءهم {فاخوانُكم} أي: فهم إِخوانُكم، فليقُل أحدُكم: يا أخي، {ومواليكم} قال الزجاج: أي: بنو عمِّكم. ويجوز أن يكون {مواليكم} أولياءَكم في الدِّين.
{وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: فيما أخطأتم به قبل النَّهي، قاله مجاهد.
والثاني: في دعائكم من تَدْعونه إِلى غير أبيه وأنتم ترَونه كذلك، قاله قتادة.
والثالث: فيما سهوتم فيه، قاله حبيب بن أبي ثابت.
فعلى الأول يكون معنى قوله: {ولكن ما تعمَّدتْ قلوبُكم} أي: بعد النَّهي. وعلى الثاني والثالث: ما تعمَّدتْ في دعاء الرجل إِلى غير أبيه.
قوله تعالى: {النَّبيُّ أَولى بالمؤمِنين مِنْ أنفُسهم} أي: أحقُّ، فله أن يحكُم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إِذا دعاهم إِلى شيء، ودعتْهم أنفسهم إِلى شيء، كانت طاعتُه أولى من طاعة أنفُسهم؛ وهذا صحيح، فان أنفُسهم تدعوهم إِلى ما فيه هلاكهم، والرسول يدعوهم إِلى ما فيه نجاتهم. قوله تعالى: {وأزواجُه أُمَّهاتُهم} أي: في تحريم نكاحهنَّ على التأبيد، ووجوب إِجلالهنَّ وتعظيمهنَّ؛ ولا تجري عليهنَّ أحكام الأُمَّهات في كل شيء، إِذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأحد أن يتزوج بناتِهنَّ، وَلَورِثْنَ المسلمين، ولجازت الخَلوة بهنَّ. وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت: يا أُمَّاه، فقالت: لستُ لكِ بأُمٍّ؛ إِنَّما أنا أُمُّ رجالكم؛ فبان بهذا الحديث أن معنى الأُمومة تحريمُ نكاحهنَّ فقط. وقال مجاهد: {وأزواجُه أُمَّهاتُهم} وهو أب لهم. وما بعد هذا مفسَّر في آخر الأنفال إِلى قوله تعالى: {من المؤمنين والمهاجرين} والمعنى أن ذوي القرابات بعضُهم أولى بميراث بعض من أن يَرِثوا بالإِيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ {إِلاَّ أن تفعلوا إِلى أوليائكم معروفاً} وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن فِعلُكم إِلى أوليائكم معروفاً جائز، وذلك أن الله تعالى لمَّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة، أباح الوصية للمعاقدين، فللانسان أن يوصيَ لمن يتولاَّه بما أحب من ثلثه. فالمعروف هاهنا: الوصية.
قوله تعالى: {كان ذلك} يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إِلى ذوي الأرحام {في الكتاب} يعني اللوح المحفوظ {مسطوراً} أي: مكتوباً.


قوله تعالى: {وإِذ أخذْنا} المعنى: واذكر إِذ أخذنا {من النبييِّن ميثاقهم} أي: عهدهم؛ وفيه قولان:
أحدهما: أخذُ ميثاق النبييِّن: أن يصدِّق بعضُهم بعضاً، قاله قتادة.
والثاني: أن يعبدوا الله ويدعوا إِلى عبادته، ويصدِّق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم، قاله مقاتل. وهذا الميثاق أُخِذ منهم حين أُخرجوا من ظهر آدم كالذَّرِّ. قال أُبيُّ بن كعب: لمَّا أخذ ميثاق الخَلْق خصَّ النبييِّن بميثاق آخر.
فان قيل: لِمَ خصَّ الأنبياءَ الخمسة بالذِّكْر دون غيرهم من الأنبياء؟
فالجواب: أنه نبَّه بذلك على فضلهم، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع؛ وقدَّم نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله عليهم. قال قتادة: كان نبيُّنا أولَ النبييِّن في الخَلْق.
وقوله: {ميثاقاً غليظاً} أي: شديداً على الوفاء بما حُمِّلوا. وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد: اليمينُ بالله عز وجل. {لِيَسألَ الصادقين} يقول: أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين، وهم الأنبياء {عن صِدقهم} في تبليغهم. ومعنى سؤال الأنبياء وهو يعلم صدقهم تبكيت مكذِّبيهم. وهاهنا تم الكلام. ثم أخبر بعد ذلك عمَّا أعدَّ للكافرين بالرسل.
قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ جاءتكم جنود} وهم الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق.
الإِشارة إِلى القصة.
ذَكر أهل العلم بالسِّيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أجلى بني النضير، ساروا إِلى خيبر، فخرج نفر من أشرافهم إِلى مكة فألَّبوا قريشاً ودعَوهم إِلى الخروج لقتاله، ثم خرجوا من عندهم فأتَوا غطفان وسُلَيم، ففارقوهم على مثل ذلك. وتجهزت قريشٌ ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، ووافتهم بنو سُلَيم ب مرِّ الظهران وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مُرَّة، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب؛ فلمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خروجُهم من مكة، أخبر الناسَ خبرهم، وشاورهم، فأشار سلمان بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى سفح سَلْعٍ، وجعل سَلْعاً خلف ظهره؛ ودسَّ أبو سفيان بن حرب حُيَيَّ بن أخطب إِلى بني قريظة يسألهم أن ينقُضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكونوا معهم عليه، فأجابوا، واشتد الخوف، وعَظُم البلاء، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال، وحُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه بضع عشرة ليلة حتى خلص إِليهم الكَرْب، وكان نُعَيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذَّل بينهم، فاستوحش كل منهم من صاحبه، واعتلَّت قريظة بالسبت فقالوا: لا نقاتِل فيه، وهبَّت ليلةَ السبت ريح شديدة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إِنكم والله لستم بدار مُقام، لقد هلك الخُفُّ والحافر، وأجدب الجَنَاب، وأخلفتْنا قريظةُ، ولقينا من الريح ما ترَون، فارتحِلوا فاني مرتحِل؛ فأصبحت العساكر قد أقشَعت كلُّها. قال مجاهد: والريح التي أُرسلت عليهم هي الصَّبا، حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم. والجنود: الملائكة، ولم تقاتل يومئذ. وقيل: إِن الملائكة جَعلت تقلَعُ أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبِّر في جوانب عسكرهم، فاشتدت عليهم، فانهزموا من غير قتال.
قوله تعالى: {لَمْ تَرَوْهَا} وقرأ النخعي، والجحدري، والجوني، وابن السميفع: {لم يَرَوْهَا} بالياء {وكان اللّهُ بما تعملون بصيراً} وقرأ أبو عمرو: {يعملون} بالياء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8